.[سورة يوسف: آية 101]
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}{من} في
{مِنَ الْمُلْكِ} و
{مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل
{أَنْتَ وَلِيِّي} أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي
{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده
{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ويجوز أن يكون تمنيًا للموت على ما قيل
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز: أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له: صنع اللّه على يديك خيرًا كثيرًا: أحييت سننا وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ اللّه عينه وجمع له أمره قال: توفني مسلمًا وألحقنى بالصالحين. فإن قلت: علام انتصب
{فاطر السموات}؟ قلت على أنه وصف لقوله:
{رَبِّ} كقولك أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء. اهـ.
.قال ابن الجوزي:
قوله تعالى:
{قالوا} يعني: إِخوة يوسف:
{إِن يسرق} يعنون بنيامين:
{فقد سرق أخ له من قبل} يعنون يوسف.قال المفسرون: عوقب يوسف ثلاث مرات، قال للساقي:
{اذكرني عند ربك} فلبث في السجن بضع سنين، وقال للعزيز:
{ليعلم أني لم أخنه بالغيب}، فقال له جبريل: ولا حين هممت؟ فقال:
{وما أُبرئ نفسي}، وقال لإِخوته:
{إِنكم لسارقون}، فقالوا:
{إِن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة أقوال.أحدها: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني المجاعة، فيطعمه للمساكين، رواه عطاء عن ابن عباس.والثاني: أنه سرق مكحلة لخالته، رواه أبو مالك عن ابن عباس.والثالث: أنه سرق صنمًا لجده أبي أمه، فكسره وألقاه في الطريق، فعيَّره إِخوته بذلك، قاله سعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وقتادة.والرابع: أن عمة يوسف وكانت أكبر ولد إِسحاق كانت تحضن يوسف وتحبُّه حبًا شديدًا، فلما ترعرع، طلبه يعقوب، فقالت: ما أقدر أن يغيب عني، فقال: والله ما أنا بتاركه، فعمدت إِلى منطقة إِسحاق، فربطتها على يوسف تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إِسحاق، فانظروا من أخذها، فوجدوها مع يوسف، فأخبرت يعقوب ذلك، وقالت: والله إِنه لي أصنع فيه ما شئت، فقال: أنت وذاك، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فذاك الذي عيَّره به إِخوته، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.والخامس: أنه جاءه سائل يومًا، فسرق شيئًا، فأعطاه السائل، فعيَّروه بذلك.وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان بيضة، قاله مجاهد.والثاني: أنه شاة، قاله كعب.والثالث: دجاجة، قاله سفيان بن عيينة.والسادس: أن بني يعقوب كانوا على طعام، فنظر يوسف إِلى عَرْق، فخبأه، فعيَّروه بذلك، قاله عطية العوفي، وإِدريس الأودي.قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلِّها ما يوجب السرقة، لكنها تشبه السرقة، فعيَّره إِخوته بذلك عند الغضب.والسابع: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إِليه، قاله الحسن.وقرأ أبو رزين، وابن أبي عبلة:
{فقد سُرِّق} بضم السين وكسر الراء وتشديدها.قوله تعالى:
{فأسرَّها يوسف في نفسه} في هاء الكناية ثلاثة أقوال:أحدها: أنها ترجع إِلى الكلمة التي ذُكرت بعد هذا، وهي قوله:
{أنتم شر مكانًا}، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس.والثاني: أنها ترجع إِلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم:
{فقد سرق أخ له من قبل}، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا يكون المعنى: أسرَّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها.والثالث: أنها ترجع إِلى الحُجة، المعنى: فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ذكره ابن الأنباري.قوله تعالى:
{أنتم شرُّ مكانا} فيه قولان:أحدهما: شرٌّ صنيعًا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، قاله ابن عباس.والثاني: شرٌّ منزلة عند الله، ذكره الماوردي.قوله تعالى:
{والله أعلم بما تصفون} فيه قولان:أحدهما: تقولون، قاله مجاهد.والثاني: بما تكذبون، قاله قتادة.قال الزجاج: المعنى: والله أعلم أسرق أخ له، أم لا.وذكر بعض المفسرين أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه، نقر الصواع، ثم أدناه من أذنه، فقال: إِنَّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلًا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فقال بنيامين: أيها الملك، سل صواعك عن أخي، أحيّ هو؟ فنقره، ثم قال: هو حي وسوف تراه، فقال: سل صواعك، من جعله في رحلي؟ فنقره، وقال: إِنَّ صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل، وكان بنو يعقوب إِذا غضبوا لم يطاقوا، فإِذا مسَّ أحدهم الآخر ذهب غضبه، فقال: والله أيها الملك لتتركنَّا، أو لأصيحنَّ صيحةً لا يبقى بمصر امرأة حامل إِلا أَلقتْ ما في بطنها، فقال يوسف لابنه: قم إِلى جنب روبيل فامسسه، ففعل الغلام، فذهب غضبه، فقال روبيل: ما هذا؟! إِن في هذا البلد من ذرية يعقوب؟ قال يوسف: ومَن يعقوب؟ فقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب، فانه إِسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل.الله فلمَّا لم يجدوا إِلى خلاص أخيهم سبيلًا، سألوه أن يأخذ منهم بديلًا به، فذلك قوله:
{يا أيها العزيز إِنَّ له أبًا شيخًا كبيرًا} أي: في سِنِّه، وقيل: في قَدره،:
{فخذ أحدنا مكانَه} أي: تستعبده بدلًا عنه:
{إِنَّا نراك من المحسنين} فيه قولان:أحدهما: فيما مضى.والثاني: إِن فعلت.
{قال معاذَ الله} قد سبق تفسيره [يوسف: 33]، والمعنى: أعوذ بالله أن نأخذ بريئًا بسقيم.قوله تعالى:
{فلما استيأسوا منه} أي: أيسوا.وفي هاء:
{منه} قولان:أحدهما: أنها ترجع إِلى يوسف، فالمعنى: يئسوا من يوسف أن يخلّي سبيل أخيهم.والثاني: إِلى أخيهم، فالمعنى: يئسوا من أخيهم.قوله تعالى:
{خلصوا نجيًا} أي: اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم، يتناجَون ويتناظرون ويتشاورون، يقال: قوم نجي، والجمع أنجية، قال الشاعر:
إِني إِذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ** وَاضّطربَتْ أَعْنَاقُهم كالأَرْشِيَهْوإِنما وحد:
{نجيًا} لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين، والجمع والمؤنث بلفظ واحد وقال الزجاج: انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إِلى أبيهم وليس معهم أخوهم.قوله تعالى:
{قال كبيرهم} فيه قولان:أحدهما: أنه كبيرهم في العقل، ثم فيه قولان:أحدهما: أنه يهوذا، ولم يكن أكبرهم سنًا، وإِنما كان أكبرهم سنًا روبيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل.والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد.والثاني: أنه كبيرهم في السن وهو روبيل، قاله قتادة، والسدي.قوله تعالى:
{ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله} في حفظ أخيكم وردِّه إِليه:
{ومن قبل ما فرطتم في يوسف} قال الفراء:
{ما} في موضع رفع، كأنه قال: ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف.وإِن شئت جعلتها نصبًا، المعنى: ألم تعلموا هذا، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف.وإِن شئت جعلت:
{ما} صلة، كأنه قال: ومن قبل فرَّطتم في يوسف.قال الزجاج: وهذا أجود الوجوه، أن تكون:
{ما} لغوًا.قوله تعالى:
{فلن أبرح الأرض} أي: لن أخرج من أرض مصر، يقال: بَرِح الرجل بَراحًا: إِذا تنحّى عن موضعه.
{حتى يأذن لي} قال ابن عباس: حتى يبعث إِليَّ أن آتيه،:
{أو يحكم الله لي} فيه ثلاثة أقوال:أحدها: أو يحكم الله لي، فيردَّ أخي عليّ.والثاني: يحكم الله لي بالسيف، فأحارب من حبس أخي.والثالث: يقضي في أمري شيئًا،:
{وهو خير الحاكمين} أي: أعدلهم وأفضلهم.قوله تعالى:
{إِن ابنك سرق} وقرأ ابن عباس، والضحاك، وابن أبي سريج عن الكسائي:
{سُرِّق} بضم السين وتشديد الراء وكسرها.قوله تعالى:
{وما شهدنا إِلا بما علمنا} فيه قولان:أحدهما: وما شهدنا عليه بالسرقة إِلا بما علمنا، لأنا رأينا المسروق في رحله، قاله أبو صالح عن ابن عباس.والثاني: وما شهدنا عن يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إِلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد.وفي قوله:
{وما كنا للغيب حافظين} ثمانية أقوال:أحدها: أن الغيب هو الليل، والمعنى: لم نعلم ما صنع بالليل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلًا.والثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة، وقتادة، ومكحول.قال ابن قتيبة: فالمعنى: لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينَّك به أنه يسرق فيؤخذ.والثالث: لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق، رواه عبد الوهاب عن مجاهد.والرابع: لم نعلم أنه سرق للملك شيئًا، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق، قاله ابن زيد.والخامس: أن المعنى: قد رأينا السرقة قد أُخذت من رحله، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرَّقوه، قاله ابن إِسحاق.والسادس: ما كنا لغيب ابنك حافظين، إِنما نقدر على حفظه في محضره، فإِذا غاب عنا، خفيت عنا أموره.والسابع: لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به، ذكرهما ابن الأنباري.والثامن: لم نعلم أنك تُصَابُ به كما أُصبتَ بيوسف، ولو علمنا لم نذهب به، قاله ابن كيسان.قوله تعالى:
{واسأل القرية} المعنى: قولوا لأبيكم: سل أهل القرية:
{التي كنا فيها} يعنون مصر:
{والعير التي أقبلنا فيها} أي: وأهل العير، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين.قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: وسل القرية والعير فانها تعقل عنك لأنك نبي، والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم، فعلى هذا تسلم الآية من إِضمار.قوله تعالى:
{قال بل سوّلت لكم أنفسكم} في الكلام اختصار، والمعنى: فرجعوا إِلى أبيهم فقالوا له ذلك، فقال لهم هذا، وقد شرحناه في اول السورة [يوسف: 18].واختلفوا لأي علَّة قال لهم هذا القول، على ثلاثة أقوال:أحدها: أنه ظن أن الذي تخلَّف منهم، إِنما تخلف حيلة ومكرًا ليصدِّقهم، قاله وهب بن منبه.والثاني: أن المعنى: سوَّلت لكم أنفسكم أنّ خروجكم بأخيكم يجلب نفعًا، فجرَّ ضررًا، قاله ابن الأنباري.والثالث: سوَّلت لكم أنه سرق، وما سرق.قوله تعالى:
{عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا} يعني: يوسف وبنيامين وأخاهما المقيم بمصر، وقال مقاتل: أقام بمصر يهوذا وشمعون، فأراد بقوله.
{أن يأتيني بهم} يعني: الأربعة.قوله تعالى:
{إِنه هو العليم} أي: بشدة حزني، وقيل: بمكانهم،:
{الحكيم} فيما حكم عليّ.قوله تعالى:
{وتولَّى عنهم} أي: أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب، وانفرد بحزنه، وهيَّج عليه ذِكر يوسف:
{وقال يا أسفى على يوسف} قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف.قال ابن قتيبة: الأسف: أشد الحسرة.قال سعيد بن جبير: لقد أُعطيتْ هذه الأمة عند المصيبة مالم يُعْطَ الأنبياء قبلهم:
{إِنا لله وإِنا إِليه راجعون} [البقرة: 156]، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب؛ إِذ يقول:
{يا أسفى على يوسف}.